✒️ ساعي البريد الأخير:
{رسائل القلب في زمن البرود}.
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتتبخر فيه المشاعر بين إشارات رقمية، تبرز الحاجة إلى من يذكّرنا بأننا بشر، نحتاج إلى دفء الكلمة ولمسة اليد، لا إلى رموز تعبيرية تختزل الوجدان.
في أعماقي، أؤمن أنّ الحب والمودة هما الشرارة الأولى التي تُشعل الحرية الحقيقية، وأنّ التآلف بين الأحبة والأقارب، بل وبين الناس جميعاً، هو البذرة التي تنبت منها العدالة، ومنها يتدفق السلام، لا بين الأفراد والمجتمعات فحسب، بل بين الدول والشعوب أيضاً.
ولعلّ أبسط الأشياء في ظاهرها قد تكون أعظمها في عمقها، وما حامل الرسائل إلا شاهد صادق على هذه الحقيقة.
في هذا العصر الذي صرنا نتبادل فيه النظرات عبر شاشات باردة، ونودّع أحباءنا بنقرة إصبع، أجدني أتساءل:
أين ذهب دفء الورقة بخط اليد، ورعشة الصوت حين يهمس باسم حبيب؟
لقد غزتنا التكنولوجيا ببرودتها، وكادت تفصلنا عن إنسانيتنا، لكن هناك من لا يزال يقف كحارس أخير للوداعة الإنسانية:
إنه ساعي البريد، ذلك الكائن الذي لا تزال خطواته تنبض بمعنى الوجود المشترك.
في زمن السرعة والانزياح الرقمي، حيث تختزل المشاعر في "إعجابات" و"رموز تعبيرية"، أراه يمثل آخر معاقل البطء الإنساني الجميل.
إنه ليس رجلاً يحمل ظرفاً فحسب، بل هو حامل نبض وناقل عطرة إنسانية لا تستطيع الألياف الضوئية نقلها.
أراه فيلسوف الطريق الصامت، الذي يزورنا دون أن يدّعي الحكمة.
يطرق الباب فيتواصل الجيران مرة أخرى، وتتذكر الجدة وجه حفيدها حين ترى طابعاً بريدياً على رسالة منه.
إنه يذكّرني بأن الحب يحتاج إلى جهد، إلى لمسة، إلى شيء ملموس يمر بين الأيدي قبل أن يصل إلى القلب.
رسالة بخط إبنتي من مدينة بعيدة، تحمل عبير عطرها واهتزاز قلمها، هي مقاومة وجودية ضد النسيان والتباعد.
إنها تذكير بأننا لسنا أرقاماً في سحابة إلكترونية، بل كائنات من لحم ودم، نحتاج أن نرى آثار أقدام بعضنا على أعتاب بيوتنا.
وساعي البريد قطب الرحى في دوامة العولمة الجامحة.
يمنح للوجود طعماً محلياً، للحي اسماً، للصديق حضوراً.
هو شاهد على أحزاننا وأفراحنا، يحمل بطاقة تهنئة بميلاد أو نعيَاً برحيل عزيز.
يجوب الشوارع والمنعطفات، وفي حقيبته تختلط أوجاع البشر بأحلامهم، لا يفرّق بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم.
في كل ظرف يوصله، هناك قصة إنسانية تبحث عن اكتمال:
أم قلقلة، وحبيب متلهف، وصديق يمد يد الوفاء.
وهكذا لا يقتصر على نقل الرسائل، بل ينقل الاعتراف بالآخر، والاحتفاء بوجوده، ويؤكد أننا – رغم كل شيء –
ما زلنا نترقب من يحمل لنا نبض الحقيقة، لا مجرد معالجة رقمية.
العدالة الاجتماعية تبدأ من هنا، من اعترافنا ببعضنا، من حبنا لبعضنا.
وساعي البريد هو حلقة الوصل في هذه المعادلة الإنسانية.
إنه يمهّد الطريق لحرية صافية، حرية التواصل الإنساني الخالص من أي قيود تكنولوجية أو سياسية.
يزرع السلام بين القلوب قبل أن تزرعه الحكومات بين الدول.
وكلما تأملت في حضوره، شعرت أنّه رمز أكبر من وظيفته؛
رمز للوفاء الذي يربط بين الناس، للثقة التي تتجدد مع كل رسالة، وللأمل الذي يتنفس في انتظار جواب.
كأنّه يذكّرني أنّ المودة ليست فكرة معلقة في الهواء، بل فعل حيّ، وأنّ الحب ليس عاطفة عابرة، بل التزام وصبر وانتظار.
لذلك، وأنا أرى هذا البطل الخفي يضرب في الأرض من أجلنا، أدعوك إلى أن تتوقف قليلاً، وأن تمنحه ابتسامة، وأن تكتب رسالة بخط يدك إلى من تحب.
فلنعيد معاً بناء جسور المودة والرحمة، ولنحارب برودة العصر بحرارة القلب.
فلنكن نحن الرسائل الحيّة التي لا تموت،
فلنكتب بأيدينا ما تعجز الآلات عن بثّه،
ولنحمل بقلوبنا ما لا تُطيقه الشاشات الباردة.
فكلُّ كلمة حبّ نرسلها،
وكلُّ لمسة وفاء نمنحها،
هي بذرة حرية،
وغصن عدالة،
وزهرة سلام.
هكذا نصير سعاة بريد أبديين للبشرية،
نُسلِّم القلوب إلى القلوب،
ونبني فوق صمت هذا العصر
جسراً من مودةٍ يليق بإنسانيتنا.
بقلم:
د. محمد شعوفي