الخميس، 6 مارس 2025

كتب الكاتب هيثم سيف لمنتدى المحيط موضوع جوهر الإنسانية

 البيانُ: جوهرُ الإنسانيَّةِ وأداتُها الخالدة


بقلم: هيثم سيف


البيانُ هو تاجُ الإنسانيَّةِ وسرُّ تميُّزِها، فليسَ هو مجرَّدَ وسيلةٍ للتواصلِ، بل هو مرآةُ الفكرِ وتجلي الروحِ وأداةُ الإدراكِ النافذة. بالكلمةِ يشيِّدُ الإنسانُ معالمَ حضارته، وباللغةِ يُحْيي الذاكرةَ ويستبقي التراثَ، فإن غابَ البيانُ، تفرَّقَ الناسُ أيديَ سبأ، وتقهقرَ العقلُ إلى هاويةِ الركودِ والجمود.


وإذا أُفرِغَ الكلامُ من المعنى، أو غدا مجرَّدَ صدىً خاوٍ يُردِّدُ المعلوماتِ بلا تدبُّرٍ ولا تأمُّل، انطفأتْ شعلةُ الفكرِ، وخبتْ معها جذوةُ الإبداع.


في عصرِنا هذا، نشهدُ انحدارًا مريعًا في مستوى البيانِ لصالحِ السرعةِ والاختصارِ، فتراجعتِ المحاوراتُ العميقةُ أمامَ العباراتِ المقتضبة، وغدتْ وسائلُ التواصلِ ساحاتٍ تضجُّ بكلماتٍ خاويةٍ، مجرَّدةٍ من الروحِ والمعنى. اللغةُ، التي كانت يومًا أداةً للفكرِ وأفقًا للتأمُّلِ، تحوَّلتْ إلى رموزٍ تُستهلَكُ بسطحيةٍ مقيتة، حتى صارَ البيانُ الراقي "مهارةً نادرةً"، يُتقنُها القليلُ، ويفتقرُ إليها الكثير.


وكان الشعرُ من أعظمِ ضحايا هذا التراجعِ، فقد كان يومًا ديوانَ العربِ ومستودعَ حكمتهم، وسلاحًا يمضون به في المدحِ والهجاءِ، بل كان وعيدَهم وإنذارَهم بالحربِ، وإعلانَهم للسلامِ، وتأريخَهم ومفخرتَهم. كان ملاذَ القلوبِ والخيالِ، يُرسمُ به دربُ الفكرِ، وتُصوَّرُ به مشاهدُ الحياةِ، كما فعلَ كعبُ بن زهيرٍ حين احتمى ببلاغةِ بيانهِ من سيفِ العقاب، وقبله النابغةُ الذبيانيُّ وغيرُهم من فحولِ الشعراءِ الذين لم يكنْ شعرُهم مجرَّدَ ترفٍ لفظيٍّ، بل قوَّةً تُؤثِّرُ وتُغيِّرُ.


أما اليوم، فقد انزوى الشعرُ، وتقلَّصَ تأثيرُه في حياةِ الناس، حتى بات عند كثيرينَ مجرَّدَ زخرفةٍ لفظيَّةٍ لا سلاحًا للفكرِ، ولا منفذًا للروحِ.


إنَّ استعادةَ البيانِ ليستْ ترفًا، بل ضرورةٌ لإحياءِ الفكرِ والوجدانِ، فالكلمةُ ليستْ مجرَّدَ أصواتٍ تُلقى، بل هي كيانٌ يحملُ في طيَّاتِه هويَّةَ الإنسانِ وعمقَ تجربتِه. وما دامتِ الكلمةُ قادرةً على أن تبني أو تهدم، ترفعُ أو تُسقط، فإنَّ إتقانَ البيانِ سيظلُّ مفتاحَ التأثيرِ، وسلاحَ الإنسانِ للدفاعِ عن فكرِه وهويَّتِه أمامَ تيَّارِ التسطيحِ والتفاهة.


بقلم 

أبو


المهاب 

هيثم سيف

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية