الثلاثاء، 29 يوليو 2025

مدونة الصباح (18) للكاتب محمد نور الدين

 مدونة الصباح_(18)

 مرآة الأرواح 

في العالم الأفتراضي :


يا طالب الحكمة عند إشراقة الصباح، يا من يفتش عن النور بين السطور، إنك قد دخلت عصرا تفتح فيه النوافذ لا على الديار، بل على القلوب والعقول، يقال له "العالم الأفتراضي"، وما هو بظل ولا خيال، بل هو طيف يحاكي الحقيقة، ويسابقها.


هو بحر لا يدرك له قاع، ولا يحد له ساحل، موجه صور وكلم، وسفنه أزرار تضغط، وصوته همس أفكار تخرج بلا رقيب ولا ميزان.  

قالوا: الكلمة سهم، فإن خرجت لم تعد، فكيف إذا كانت ترمى في فضاء لا ينسى، وتبقى معلقة في عنق صاحبها إلى يوم يكشف فيه المستور؟


في هذا الفضاء، تعرف النفس بغير لسانها، ويوزن العقل بغير كتابه، فإن كان ظاهر المرء في الطرق يخدع، فباطنه في الشبكة أصدق شهادة.


تأمل حال الأقوام فيه،  

هذا يطلب علما، فينهل من عيون المعرفة، ويصبح نهرا يسقي العقول.  

وذاك يطلب فتنة، فيضل ويضل، ويصبح عارا في ميزان الزمان.  

وذا يبتغي شهرة بلا معنى، فيخسر وقاره ويرهن فكره للعدد والمُتابعة.


قيل في الأثر: "المرء بأصغريه، قلبه ولسانه"، واليوم قد زيد عليه: وهاتفه ونيته.  

ومن أقوال الحكماء: "من أستوحش من الناس، فعليه بمطالعة الكتب"، واليوم يقال: من أستوحش من نفسه، فليراجع ما ينشره بيده.


العالم الأفتراضي لا يلام، فهو مرآة صافية، من دخلها صادقا خرج منها نورا، ومن دخلها ملونا خرج منها ظلا باهتا.  

هو السيف، إن وضع في يد حاذق، صار نصرا، وإن أُعطي لغير رشيد، أورد المهالك.

فيه منابر، فمن أتخذه منبرا للخير، كان كمن يزرع في أرض خصبة، كل حبة فيه تثمر علما أو خلقا.  

وفيه حفر، من وقع فيها ضاع زمانه، وباع دينه بدنيا غيره.


يا ابن اليوم، لا تكن عبدا لنبض الشاشة، ولا أسيرا لمشهد يبهج اللحظة ويفني القيمة.  

أجعل حروفك سقيا، لا شوكا، وكن ممن قال فيهم الشاعر:

اذا أنت لم تزرع 

 وأبصرت حاصدا  

ندمت على التفريط

في زمن البذر


وأحذر أن تظهر ما تخجل منه لو نشر بين يدي الناس، فإن الشبكة لا ترحم، والوقت لا يمهل، والرب لا يغفل.


أجعل صباحك فاتحة حق، لا لهو، وأصدح بما ينبت الفضيلة، لا ما يميت القلب.  

ولا تكن ممن يضحكون خلف الشاشات، ويخسرون وجههم بين الخلق والخالق.  

وأذكر أن كل حرف تكتبه شاهد، وكل صورة تحفظها أمانة، وكل مشاركة ميزان يرجح به عملك.


فاجعل نفسك صاحب خلق، وإن لم يشاهدك أحد. وكن في العالم الإفتراضي كما تكون في خلواتك مع الله.  

ذاك هو الفارق بين الغافل والراشد، بين من يجعل التقنية عبادة، ومن يجعلها عبثا.


صباحك نور لا يطفا، وحق لا يزيف، وفكر لا يشترى.


◆ محمد نور الدين 🇪🇬 

 الهوية الأدبية: MN-ADE25-EG 


في الفيسبوك، تسبح العقول في بحر الكلمات، لكن قليل منها يطفو على وجه الفهم.◆



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية