الاثنين، 1 سبتمبر 2025

الكاتبة هدى أحمد شوكت و صابرة

 صابرة… وحدها الأسود سمعتها


في ريف إثيوبيا الهادئ، حيث تمتد السهول الخضراء وتهمس الأشجار بحكايات قديمة، وُلدت "صابرة" تحت سقف من قش، في بيت طينيّ لا يحمل من الثراء شيئًا سوى قلب أمّها الدافئ. كانت طفلة نحيلة، ذات ضفائر مشدودة ونظرات أعمق من عمرها، تحب القراءة أكثر من اللعب، وتحلم بمدرسةٍ لا تُغلق أبوابها بوجه البنات.


في يونيو 2005، كانت صابرة في الثانية عشرة من عمرها، عائدة من مدرستها وهي تضغط على حقيبتها المهترئة كأنها كنز، لا تدري أن العالم سيتآمر على أحلامها بعد لحظات.


من بين الشجيرات ظهروا. أربعة رجال، بوجوهٍ قاسية كالأرض الجافة، جرّوها من ذراعها، كمَن يسحب خروفًا إلى الذبح. صرخت. صاحت. عضّت أحدهم. لكن لا صوت علا على عنفهم، ولا يد امتدت لإنقاذها.


في كوخ مهجور على أطراف الغابة، حُبست صابرة. قال أحدهم وهو يغلق الباب الحديدي:

"ستتعودين. اليوم عروس، وغدًا أم. نحن لا ننتظر موافقتكن."

أما هي، فكانت تبكي في صمت. الدموع سقطت على تراب الأرض، وكأنها تستنجد بالسماء عبر الأرض.


أيام سبعة. بلا نور، بلا ماء نظيف، بلا أحد.

كانوا يدخلون يهددونها، يضربونها أحيانًا، يكسرون كبرياءها، يحاولون قتل الطفلة بداخلها لتبقى أنثىً خاضعة، فقط.


وفي اليوم السابع، وبينما كانت تهمس بدعاء لا تحفظه كاملًا، سمعت زمجرة.

أقرب من الحلم، وأبعد من الفهم.

زمجرة واحدة فقط… تبعتها نظرات ذهول من خاطفيها.


ثلاثة أسود. خرجت من عمق البرية، بخطوات واثقة، كأنها تعرف الطريق.

تجمد الرجال. تراجعوا ببطء، ثم هربوا كالجرذان، يصرخون وقد تهاوت جبروتهم أمام عيونٍ ذهبية لا ترحم.


صابرة، المرتجفة في زاوية الكوخ، رفعت عينيها ببطء.

لم تهاجمها الأسود. لم تزأر حتى. بل التفّت حولها، واحدة عند الرأس، وأخرى عند قدميها، والثالثة خلفها مباشرة.


مرّت الساعات. الشمس تحرّكت في السماء كأنها تراقب المشهد غير مصدقة.

وصابرة ما زالت على حالها… في حضن حراسة غامضة لا تفسير لها.


وصلت الشرطة أخيرًا، بعد أن دلّهم قرويون على صوت الزئير.

اقتربوا ببطء، والأسود تراجعت ببطء، كأنها تسلّم الأمانة… وتختفي.

لم تُصب. لم تُخدش.

لكنها لم تعد صابرة الطفلة.


عادت إلى قريتها والناس يُحيطون بها كأنها خرجت من الأساطير.

لكنها لم تبتسم.

فقد تركت في ذلك الكوخ شيئًا منها لم يعد.


مرت السنوات، وصابرة كبرت. درست القانون. وقررت أن تكون صوتًا لكل من صرخت ولم يُجبها أحد.


قالت يومًا في مؤتمر حقوقي في العاصمة:

"في ذلك اليوم، لم يُنقذني بشر. بل حيوانات. والوحشية لم تكن في مخالبها… بل في نوايا الرجال الذين ظنوا أنهم أقوى من طفلة. اليوم، أنا صوت البنات اللاتي لم تقترب منهن الأسود."


وباتت قصتها تُدرّس في المدارس.

لا كحكاية عن الغابة… بل عن العدالة التي قد تأتي من حيث لا ننتظر.


بقلم الادبية المصرية

هدى أحمد شوكت




0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية