✒️ أنثى الكون
{حوار على مقعد القطار}.
في زمنٍ تتداخل فيه الأصوات وتضيع فيه المعاني، كان لا بد من لحظة صدق على مقعد قطار، تكشف ما غاب عن وعينا الجمعي:
أن الأنوثة ليست قضية فرد، بل جوهر حضارة.
كان القطار يشقّ السهول بانتظام، كأن هديره نشيدٌ يذكّرني بإيقاع التاريخ، ويوقظ في داخلي أسئلة قديمة عن التوازن والهوية.
جلستُ إلى جوار صحفية كنت قد التقيتها في رحلة سابقة.
كانت ملامحها مزيجًا من الصلابة والإرهاق، كمن يكتب كل يوم عن هموم العالم، لكنه يخفي داخله جرحًا شخصيًا أعمق من أي خبر.
تبادلنا التحية، وما لبث أن بدأ الحوار كما لو أن لقاءنا الأول لم ينقطع قط.
قالت وهي تنظر من النافذة إلى الأفق المتراجع:
أتعلم؟
مهما علت المرأة في المناصب، ومهما حصدت من اعترافات، يبقى بداخلها سرّ لا يتغير:
إنها أنثى.
ليست الأنوثة ضعفًا، بل جوهرًا.
قد تكون المرأة قاضية أو وزيرة أو رئيسة تحرير، لكنها في النهاية تحتاج إلى الاحتواء، تحتاج أن يُقال لها:
لستِ وحدك في هذا العالم.
تأملتُ كلامها وسألتها:
ولكن لماذا يخاف المجتمع من الاعتراف بهذه الحاجة؟
لماذا يُصرّ على أن الأنوثة ضعفٌ يجب تجاوزه؟
أجابت وهي تنفث أنفاسها ببطء:
لأنهم لم يفهموا أن احتياجاتي ليست عبئًا بل سرّ اكتمالي.
إنهم يتعاملون مع المرأة ككائن مشوّه:
إما أن تُلغى طبيعتها باسم الحرية، أو تُسجن باسم الحماية.
كلاهما إلغاء.
والحقيقة أن الله حين خلقنا جعلنا متكاملين لا متشابهين، فقال:
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
المودة والرحمة ليست شعارات، بل توازن ضروري لاستمرار الحياة.
قلت لها:
لكن ألا ترين أن تغييب هذا التوازن هو الذي يفسّر قسوة العلاقات اليوم، وكثرة الانهيارات الأسرية؟
أومأت برأسها:
بلا شك. حين يُطلب مني أن أتقمص دورًا لا يشبه طبيعتي، أفقد حقي في أن أعيش أنوثتي كما هي.
وإذا تخلى الرجل عن رجولته الحقيقية، وجدت نفسي أُجبر على أن أكون الحصن والساكنة في آنٍ واحد.
هنا يختلّ التناغم:
لا يعود الرجل رجلاً كما يجب، ولا أعود أنا امرأة كما يجب.
والنتيجة أن المجتمع بأسره يتعثر، لأن الحضارة لا تُبنى بالعقول وحدها، بل بالقلوب أيضًا.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«استوصوا بالنساء خيرًا»،
ولم يقل ذلك من باب المجاملة، بل من باب الإدراك أن المرأة إذا لم تُعطَ خيرها، عجز المجتمع عن النهوض.
قلت لها:
إذن القضية ليست مجرد إنصاف فردي، بل قضية حضارية.
قالت وقد ازدادت نبرتها عمقًا:
بالضبط.
حين تُقصى المرأة عن حقيقتها، لا يخسر الرجل فقط، بل تخسر الحضارة كلها.
إنّ تجاهل أنوثتي يعني أنني أُنتج مجتمعًا جافًا، قاسيًا، يفتقد إلى الرحمة والإنسانية.
هل تعلم لماذا ينهار كثير من عمراننا؟
ليس لغياب العقول، بل لغياب القلوب.
المرأة هي القلب الذي يضخّ المعنى في الحضارة.
فإذا جُرِّدت من احتياجاتها، غدا كل ما تبنيه هشًّا، بلا روح.
ومن هنا جاء قول الله تعالى:
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾،
والمعروف ليس مجرد نفقة أو واجب شكلي، بل اعتراف شامل بإنسانيتها.
سكتنا قليلاً، وكنت أتابع إيقاع القطار كما لو كان يؤكد كلماتها.
أدركت عندها أن حديثها لم يكن مجرد بوح، بل تحليل عميق للخلل الحضاري الذي نعيشه:
نحن مجتمع يريد من المرأة أن تكون كل شيء إلا ما هي عليه حقًا، وحين تُمحى حقيقتها، يختلّ الميزان كله.
وحين اقتربنا من المحطة الأخيرة، قلت لها:
الآن فهمت.
إن قضية المرأة ليست قضية حقوق اجتماعية ضيقة، بل قضية توازن وجودي.
فإذا أنصفها الرجل، أنصف نفسه، وإذا أُعطيت المرأة حقها في أن تكون عقلًا يبدع وقلبًا يحتاج، استعاد المجتمع إنسانيته، واستعاد الرجل قداسته.
ابتسمت وهي تهمّ بالنزول:
صدقت.
نحن لا نطالب إلا بما أراده الله لنا:
أنوثة لا تلغي العقل،
واحتياجات لا تنقص من القيمة،
وكرامة لا تنفصل عن الرحمة.
عندها فقط ينهض المجتمع، وتستعيد الحضارة وجهها الإنساني.
غادرتُ القطار وأنا أشعر أن كلماتها لم تكن مجرد حديث عابر، بل كانت مرآة للزمن، وصوتًا خافتًا من ضمير الحضارة.
لقد أيقنت أن المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي قلبه النابض، وروحه التي تمنحه المعنى.
أنوثتها واحتياجاتها هي اللغة السرية التي تحفظ توازن الوجود،
فإذا تجاهلنا هذه اللغة، خسرنا إنسانيتنا، وأضعنا تناغمنا الكوني الأول.
بقلم:
محمد شعوفي